عصر التدوين الذهبي للحديث النبوي: البخاري، مسلم، وأصحاب الكتب الستة


الحمد لله الذي حفظ سنة نبيه ﷺ برجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فنقلوها وضبطوها ودوّنوها، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
بداية عصر التدوين الذهبي للحديث النبوي
بعد جهود الصحابة والتابعين في حفظ السنة، جاء القرن الثالث الهجري ليشهد ما يُعرف بـ عصر التدوين الذهبي للحديث النبوي، وهو المرحلة التي اكتمل فيها جمع الأحاديث وتصنيفها وفق شروط دقيقة، وظهرت فيها أعظم المصنفات التي أصبحت مرجعًا للأمة حتى اليوم.
قال الإمام الذهبي رحمه الله عن هذا العصر: "فيه نُقّحت الأحاديث، وميز صحيحها من سقيمها، ودوّنت الدواوين العظام".
أبرز أئمة هذا العصر
1. الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ)
صاحب صحيح البخاري، أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى.
اشترط في صحيحه أعلى درجات الصحة، فكان لا يكتب الحديث إلا بعد التأكد من عدالة وضبط الراوي، واتصال السند، وانتفاء العلة والشذوذ.
جمع في صحيحه أكثر من 7000 حديث مع المكرر، وانتقاه من بين مئات الآلاف من الأحاديث.
2. الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت 261هـ)
صاحب صحيح مسلم، ثاني أصح كتاب بعد صحيح البخاري.
تميز منهجه بجمع طرق الحديث في موضع واحد، مما يسهل على الباحث معرفة الاختلافات في الرواية.
التزم الصحة التامة في أحاديثه، مع ترتيب بديع للأبواب.
3. أصحاب الكتب الستة الآخرون
أبو داود السجستاني (ت 275هـ): صاحب "سنن أبي داود"، جمع فيه أحاديث الأحكام.
الترمذي (ت 279هـ): صاحب "جامع الترمذي"، جمع بين الحديث والفقه وبيان درجة الحديث.
النسائي (ت 303هـ): صاحب "السنن الكبرى" و"السنن الصغرى"، تميز بدقة النقد.
ابن ماجه (ت 273هـ): صاحب "سنن ابن ماجه"، أضاف أحاديث لم ترد في الكتب الخمسة الأخرى.
منهجهم في التدوين
التحقق من السند: دراسة عدالة وضبط الرواة.
التحقق من المتن: عرض الحديث على النصوص الصحيحة الأخرى.
التصنيف الموضوعي: ترتيب الأحاديث في أبواب فقهية أو موضوعية.
أثر عصر التدوين الذهبي
حفظ السنة النبوية من الضياع والتحريف.
وضع قواعد علم الحديث التي سار عليها العلماء بعدهم.
توفير مرجع موثوق للمسلمين في كل زمان ومكان.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "ما أعلم بعد كتاب الله كتابًا أصح من كتاب مالك"، ثم جاء البخاري ومسلم فارتقى علم الحديث إلى ذروة التمحيص والدقة.